فصل: فصل إذا عقد الهدنة بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتداً

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روضة الطالبين وعمدة المفتين **


 كتاب عقد الجزية والهدنة

فيه بابان

 الباب الأول في الجزية

وفيه طرفان‏:‏

 الطرف الأول في أركانها

وهي خمسة‏:‏ الركن الأول نفس العقد وكيفيته أن يقول الإمام أو نائبه أقررتكم أو أذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام وهل يشترط التعرض لقدر الجزية وجهان أحدهما لا ويجب الأقل وأصحهما نعم كالثمن والأجرة وهل يشترط التعرض لكفهم اللسان عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه وجهان أصحهما لا لأنه داخل في الانقياد ويشترط من الذمي لفظ كقبلت أو رضيت بذلك ولو قال الذمي قررني بكذا فأجابه الإمام تم العقد ولا يصح عقد الذمة مؤقتاً على المذهب لأنه خلاف مقتضاه ومن صحح قاسه على الهدنة ولو قال أقركم ما شئت أو أقركم ما أقركم الله أو إلى أن يشاء الله لم يصح على المذهب وقيل على الخلاف في المؤقت بمعلوم وعكسه وجعل هذا أولى بالصحة وهو خلاف ما قاله الأصحاب ولو قال أقركم ما شئتم جاز لأن لهم نبذ العقد متى شاءوا فليس فيه إلا التصريح بمقتضاه قال الأصحاب ولو قال في الهدنة هادنتكم ما شئتم لم يصح لأنه يجعل الكفار محكمين على المسلمين‏.‏

فرع إذا طلبت طائفة تقر بالجزية عقد الذمة وجبت إجابتهم وفي البيان وغيره وجه أنها لا تجب إلا إذا رأى الإمام فيها مصلحة كما في الهدنة وهذا شاذ متروك فلو خاف غائلتهم وأن ذلك مكيدة منهم لم يجبهم‏.‏

فرع إذا عقدت الذمة مع إخلال بشرط لم يلزم الوفاء ولم تجب الجزية المسماة لكن لا يغتالون بل يبلغون المأمن ولو بقي بعضهم على ذلك العقد عندنا سنة أو أكثر وجب عليه لكل سنة دينار ولو دخل حربي دارنا وبقي مدة فاطلعنا عليه فوجهان الصحيح الذي حكاه الإمام عن الأصحاب أنا لا نأخذ منه شيئاً لما مضى بخلاف من سكن داراً غصباً لأن عماد الجزية القبول وهذا حربي لم يلتزم شيئاً وخرج ابن القطان وجهاً آخر أنه تؤخذ منه جزية ما مضى وعلى الوجهين لنا قتله واسترقاقه وأخذ ماله ويكون فيئاً ولو رأى الإمام أن يمن عليه ويترك أمواله وذريته له جاز بخلاف سبايا الحرب وأموالها لأن الغانمين ملكوها فاشترط استرضاؤهم فإن كان الكافر كتابياً وطلب عقد الذمة بالجزية فهل يجيبه ونعصمه تقدم على هذا حكم الأسير إذا كان كتابياً وطلب عقد الذمة بعد الأسر وفي تحريم قتله حينئذ قولان أظهرهما التحريم لأن بذل الجزية يقتضي حقن الدم كما لو بذلها قبل الأسر فعلى هذا في استرقاقه وجهان أحدهما يحرم أيضاً ويجب تقريره بالجزية كما قبل الأسر وأصحهما لا يحرم لأن الإسلام أعظم من قبول الجزية والإسلام بعد الأسر لا يمنع الاسترقاق وماله مغنوم سواء قلنا يحرم أم لا إذا عرفت هذا فبدل الداخل الذي أطلقنا عليه الجزية وجب قبولها على المذهب وقيل وجهان كالأسير‏.‏

فرع اطلعنا على كافر في دارنا فقال دخلت لسماع كلام الله تعالى أو لرسالة صدق ولا يتعرض له سواء كان معه كتاب أم لا وفيما إذا لم يكن معه احتمال للإمام ثم نقل ابن كج عن النص أنه مدعي الرسالة إن اتهم حلف وفي البحر أنه لا يلزم تحليفه ويمكن الجمع بين الكلامين ولو قال دخلت بأمان مسلم فهل يطالب ببينة لإمكانها غالباً أم يصدق بلا بينة كدعوى الرسالة لأن الظاهر أنه لا يدخل بغير أمان فيه وجهان أصحهما الثاني قال الروياني وما اشتهر أن الرسول آمن هو في رسالة فيها مصلحة للمسلمين من هدنة وغيرها فإن كان رسولا في وعيد وتهديد فلا أمان له ويتخير الإمام فيه بين الخصال الأربع كأسير‏.‏

قلت ليس ما ادعاه الروياني بمقبول والصواب أنه لا فرق وهو آمن مطلقاً والله أعلم‏.‏

الركن الثاني العاقد ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو من فوضه إليه وفي كتاب ابن كج وجه أنه يصح عقدها من آحاد الرعية كالأمان وهذا شاذ متروك لكن لو عقدها أحد الرعية لم يغتل المعقود له بل يلحقه بمأمنه فإن أقام سنة فأكثر فهل يلزمه لكل سنة دينار وجهان أحدهما نعم كما لو فسد عقد الإمام وأصحهما لا لأنه لغو‏.‏

الركن الثالث المعقود له خمسة شروط‏.‏

فلا جزية على مجنون لأنها لحقن الدم وهو محقون وفي البيان وجه أن عليه الجزية كالمريض والهرم وليس بشيء فإن كان يجن ويفيق نظر إن قل زمن جنونه كساعة من شهر أخذت منه الجزية وإن كثر بأن يقطع يوماً ويوماً أو يومين فأوجه أصحها تلفق أيام الإفاقة فإذا تمت سنة أخذت الجزية والثاني لا شيء عليه كمن بعضه رقيق والثالث حكمه كالعاقل وما يطرأ ويزول كالإغماء والرابع يحكم بموجب الأغلب فإن استوى الزمان وجبت الجزية والخامس إن كان في آخر السنة عاقلا أخذت الجزية وإلا فلا أما إذا كان مفيقاً ثم جن بعد انتصاف السنة فهو كموته في أثناء السنة وإن كان مجنوناً فأفاق في أثناء السنة افتتح سنة وسنذكرهما إن شاء الله تعالى ولو وقع في الأسر من يجن ويفيق قال الإمام إن غلبنا حكم المجنون رق ولا يقتل وإن غلبنا حكم الإفاقة لم يرق بالأسر والظاهر الحقن ويتجه أن تعتبر حالة الأسر وهذا هو الأصح عند الغزالي‏.‏

الشرط الثاني البلوغ فلا جزية على صبي وإذا بلغ ولد ذمي فهو في أمان فلا يغتال بل يقال له لا نقرك في دار الإسلام إلا بجزية فإن لم يبذل الجزية ألحقناه بمأمنه وإن اختار بذلها فهل يحتاج إلى استئناف عقد أم يكفي عقد أبيه وجهان أصحهما عند العراقيين وغيرهم الأول فإن اكتفينا بعقد أبيه لزمه مثل جزية أبيه فإن كانت أكثر من دينار وقال لا أبذل الزيادة فطريقان أحدهما هو كذمي عقد بأكثر من دينار ثم امتنع من بذل الزيادة وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى والثاني القطع بالقبول لأنه لم يعقد بنفسه حتى يجعل بالامتناع ناقضاً للعهد وإن قلنا يستأنف معه عقد رفق به الإمام ليلتزم ما التزم أبوه فإن امتنع من الزيادة عقد له بالدينار وسواء اكتفينا بعقد أبيه أم احتجنا إلى الاستئناف فلا فرق بين أن يكون الأب قد قال التزمت هذا عن نفسي وفي حق ابني إذا بلغ وبين أن لا يتعرض للابن ولو بلغ الابن سفيهاً وبذل جزية أبيه وهي فوق دينار فهل تؤخذ منه وجهان حكاهما البغوي وليكونا بناء على أنه يكتفي بعقد أبيه أم يستأنف إن اكتفينا أخذنا وإلا فهو كسفيه جاء يطلب عقد الذمة ولا شك أنه يجاب ولا يشترط إذن وليه لأن فيه مصلحة حقن الدم لكن لو التزم أكثر من دينار قال القاضي حسين تلزمه الزيادة وإن لم يأذن الولي بناء على أن العهد لا يدخل تحت الولاية حكاه الإمام عنه ولم يرتضه وقال الحقن ممكن بدينار فينبغي أن يمتنع من بذل الزيادة وذكر الروياني نحوه وفي التهذيب الجزم بأنه لا تؤخذ الزيادة وإن أذن الولي وقال الغزالي يصح عقد السفيه بالزيادة لحقن الدم تشبيهاً بما إذا كان على السفيه قصاص وصالح المستحق على أكثر من قدر الدية لم يكن للولي منعه وزاد فقال للولي أن يعقد له بالزيادة وليس للسفيه المنع كما يشتري له الطعام بثمن غال صيانة لروحه وفرق الإمام بين هاتين المسألتين والجزية وقال صيانة الروح لا تحصل في المسألتين إلا بالزيادة وهنا بخلافه والمذهب أنه لا يصح عقد السفيه والولي بالزيادة وإذا اختار السفيه الالتحاق واختار الولي عقد الذمة فالمتبع اختيار السفيه ذكره الروياني وصاحب البيان‏.‏

الشرط الثالث الحرية فلا جزية على عبد ولا على سيده بسببه ومن بعضه رقيق كالعبد وقيل يجب من الجزية بقسط حريته والصحيح الأول لأنه غير مقتول بالكفر كمن تمحض رقه وإذا أعتق العبد فإن كان من أولاد من لا يقر بالجزية فليسلم وإلا فليبلغ المأمن وإن كان ممن يقر فليسلم أو ليبذل الجزية وإلا فليبلغ المأمن سواء أعتقه مسلم أو ذمي فإن أعتقه ذمي فهل تؤخذ منه جزية سيده أم جزية عصبته لأنهم أخص به أم يستأنف له عقد فيه أوجه‏.‏

قلت الأصح الاستئناف والله أعلم‏.‏

الشرط الرابع الذكورة فلا جزية على امرأة وخنثى فإن بانت ذكورته فهل تؤخذ منه جزية السنين الماضية وجهان‏.‏

قلت ينبغي أن يكون الأصح الأخذ والله أعلم‏.‏

ولو جاءتنا امرأة حربية فطلبت عقد الذمة بجزية أو بعثت بذلك من دار الحرب أعلمها الإمام أنه لا جزية عليها فإن رغبت مع ذلك في البذل فهذه هبة لا تلزم إلا بالقبض وإن طلبت الذمة بلا جزية أجابها الإمام وشرط عليها التزام الأحكام ولو حاصرنا قلعة فأرادوا الصلح على أن يؤدوا الجزية عن النساء دون الرجال لم يجابوا فإن صولحوا عليه فالصلح باطل وإن لم يكن فيها إلا النساء فطلبن عقد الذمة بالجزية فقولان نص عليهما في الأم أحدهما يعقد لهن لأنهن يحتجن إلى صيانة أنفسهن عن الرق كما يحتاج الرجال للصيانة عن القتل فعلى هذا يشترط عليهن أن تجرى عليهن أحكام الإسلام ولا يسترققن ولا يؤخذ منهن شيء وإن أخذ الإمام مالا رده لأنهن دفعنه على اعتقاد أنه واجب فإن دفعنه على علم فهو هبة والحكم على هذا القول كما ذكرنا في حربية بعثت من دار الحرب تطلب الذمة والقول الثاني لا تعقد لهن ويتوصل الإمام إلى الفتح بما أمكنه وإن عقد لم يتعرض لهن حتى يرجعن إلى القلعة فإذا فتحها سباهن لأن الجزية تؤخذ لقطع الحرب ولا حرب في النساء والصبيان ولأنهن قد قربن من مصيرهن غنيمة فلا يعرض عنهن بعد تحمل التعب والمؤنة والقولان متفقان على أنه لا يقبل منهن جزية ولا يوجد حد إلزام هذا ما نقله الأصحاب في جميع طرقهم وشذ عنهم الإمام فنقل في الخلاف وجهين وجعلهما في أنه هل يلزم قبول الجزية وترك إرقاقهن وضعف وجه اللزوم وذكر الروياني الطريقة المشهورة ثم حكى ما ذكره الإمام عن بعض الخراسانيين ولعله أراد به الإمام ثم قال وهو غلط ولو كان في القلعة رجل واحد فبذل الجزية جاز وصارت النساء تبعاً له في العصمة هكذا أطلقه مطلقون وخصه الإمام والغزالي بما إذا كن من أهله وهذا أحسن‏.‏

فرع عقد الذمة يفيد الأمان للكافر نفساً ومالا وعبيده من أمواله قال الإمام وليس له أن يستتبع من النساء والصبيان والمجانين من شاء لأنه يخرج عن الضبط ولكن لا بد من تعلق واتصال فيستتبع من نسوة الأقارب وصبيانهم ومجانينهم من شاء بأن يدرجهم في العقد شرطاً وسواء المحارم وغيرهم فإن أطلق لم يتبعوه ومن له مصاهرة من النساء والصبيان والمجانين لهم حكم الأقارب على الأصح وقيل كالأجانب وفي دخول الأولاد الصغار في العقد عند الإطلاق وجهان أصحهما الدخول اعتماداً على القرينة والزوجات كالأولاد الصغار وقيل كنساء القرابة‏.‏

فرع إذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو عتق العبد زالت التبعية ولزمتهم الجزية وابتداء الحول من حين حدثت هذه الأحوال فإن اتفق ذلك في نصف حول أهلهم الذميين مثلا فإذا تم حول أهلهم ورغب هؤلاء في أن يؤدوا نصف الجزية فذاك وإلا فإن شاء الإمام أخذ جزيتهم عند تمام حولهم وإن شاء أخر حتى يتم حول ثان لأهلهم فيأخذ منهم جزية سنة ونصف لئلا تختلف الأحوال‏.‏

فرع لو دخلت حربية دارنا بغير تبعية ولا أمان ولا طلب أمان جاز استرقاقها وكذا الحكم في الصبي كما يجوز قتل الكافر إذا دخل كذلك قال الإمام وكل حكم بجزية في القتال بجزية فيمن يظفر به من غير ذمة ولا أمان‏.‏

فرع عن نصه إذا صالحنا قوم على أن يؤدوا الجزية عن صبيانهم ومجانينهم ونسائهم سوى ما يؤدون عن أنفسهم فإن شرطوا أن يؤدوا من مال أنفسهم جاز وكأنهم قبلوا جزية كثيرة وإن شرطوه من مال الصبيان والمجانين لم يجز أخذه‏.‏

الشرط الخامس كونه كتابياً فالكفار ثلاثة أصناف أحدها أهل كتاب ومنهم اليهود والنصارى فيقرون بالجزية فلو زعم قوم أنهم متمسكون بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم فهل يقرون بالجزية وجهان أصحهما نعم ومنهم من قطع به ولا تحل مناكحتهم وذبيحتهم على المذهب عملا بالاحتياط في المواضع الثلاثة وقيل بطرد الخلاف في حل الذبيحة والمناكحة إلحاقاً لكتبهم بكتاب اليهود وحكي ذلك عن القاضي أبي الطيب وغيره وإذا ألحقناهم باليهود فإن تحققنا صدقهم أو أسلم اثنان منهم وشهدوا بذلك فذاك وعن صاحب الحاوي أن المعتبر قول جماعة تحصل الاستفاضة بقولهم وإن شككنا في أمرهم كالمجوس‏.‏

الصنف الثاني المجوس فيقرون بالجزية وهل كان لهم كتاب أم شبهة كتاب قولان سبقا في النكاح أظهرهما الأول وقطع به بعضهم‏.‏

الثالث من ليس له ولا شبهة كعبدة الأوثان والملائكة والشمس ومن في معناهم فلا يقرون بالجزية سواء فيهم العربي والعجمي‏.‏

فرع اليهود والنصارى يقرون بالجزية مهما دخل آباؤهم في اليهود أو التنصر قبل تبدل ذلك الدين ولا فرق بين أولاد المبدلين وغيرهم ولو دخل وثني في يهودية أو نصرانية بعد مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم لم يقروا هم ولا أولادهم لأنهم تمسكوا بدين باطل وقال المزني يقرون والتهود بعد بعثة عيسى صلى الله عليه وسلم كالتهود والتنصر بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم على الأصح وقد ذكرناه في النكاح وإن دخلوا فيه بعد التبديل وقبل النسخ فطريقان أحدهما إن تمسك بما لم يحرف قرر وإن تمسك بمحرف لم يقرر هو ولا أولاده وهل في الأولاد قولان وبهذا الطريق قال العراقيون والبغوي وآخرون والثاني يقرون بلا تفصيل ولا خلاف وهذا الطريق يدير الحكم على الدخول قبل النسخ وبعده وهو اختيار ابن كج والقاضي أبي الطيب والإمام والروياني قال القاضي أبو الطيب لا أحفظ الشرط المذكور للشافعي إنما فرق في كتبه بين ما قبل نزول القرآن وما بعده وهذا أصح قال الإمام لأنهم وإن بدلوا فمعلوم أنه بقي فيه ما لم يبدل فلا تنحط عن شبهة كتاب المجوس أو تغليباً لحقن الدم ولو لم نعرف أدخلوا قبل النسخ أو بعده أو قبل التبديل أو بعده قررناهم بالجزية كالمجوس‏.‏

فرع المذهب أن السامرة والصابئين إن خالفوا اليهود والنصارى في أصول دينهم فليسوا منهم وإلا فمنهم وهكذا نص عليه وعليه يحمل النصان الآخران وقيل قولان مطلقاً وقيل تؤخذ منهم الجزية قطعاً وهذا فيما إذا لم يكفرهم اليهود والنصارى فإن كفروهم لم يقروا قطعاً فإن أشكل أمرهم فرع لو أحاط الإمام بقوم فزعموا أنهم أهل كتاب أو أن آباءهم تمسكوا بذلك الدين قبل التبديل قررهم بالجزية لأنه لا يعرف الأمر إلا من جهتهم قال ابن الصباغ ويشترط عليهم إن بان خلاف قولهم نبذ عهدهم وقاتلهم وإن ادعاه بعضهم دون بعض عامل كل طائفة بمقتضى قولها ولا يقبل قول بعضهم على بعض فلو أسلم منهم اثنان وظهرت عدالتهما وشهدا بخلاف دعواهم نبذ عهدهم هذا لفظ جماعة وقال الإمام يتبين أنه لا ذمة لهم وهل يغتالهم لتلبيسهم علينا أم يلحقهم بالمأمن فيه تردد والظاهر اغتيالهم لتدليسهم وكذا لو أسلم من السامرة أو الصابئين اثنان فشهدا بكفرهم‏.‏

فرع من أحد أبويه كتابي والآخر وثني فيه طرق والمذهب تقريره سواء كان الكتابي الأب أو الأم وقيل قولان وقيل لا يقرر وقيل يلحق بالأب وقيل بالأم‏.‏

فرع توثن نصراني وله أولاد صغار فإن كانت أمهم نصرانية استمر لهم حكم التنصر فتقبل منهم الجزية بعد بلوغهم وإن كانت وثنية ففي تقريرهم بالجزية قولان أظهرهما نعم لأنه ثبت لهم علقة التنصر فلا تزول وحقيقة القولين ترجع إلى أن توثنه هل يستتبع أولاده فإن اتبعناهم لم يغتالوا لأنهم كانوا في أمان ولم تؤخذ منهم جزية وأما أبوهم فيبنى حكمه على ما سبق في كتاب النكاح أنه هل يقنع منه بالعود إلى دينه أم لا يقنع إلا بالإسلام فإن أباهما فيقتل أم يلحق بالمأمن قولان الأظهر الثاني‏.‏

فرع الولد المنعقد من مرتدين هل هو مسلم أم مرتد أم كافر أصلي فيه أقوال سبقت في الردة فإن قلنا مسلم فبلغ وصرح بالكفر فمرتد وإن قلنا أصلي فالصحيح أنه لا يقر بجزية‏.‏

فرع يهود خيبر كغيرهم في ضرب الجزية عليهم وسئل ابن سريج رحمه الله عما يدعونه أن علياً رضي الله عنه كتب لهم كتاباً بإسقاطها فقال لم ينقل ذلك أحد من المسلمين وفي البحر أن ابن أبي هريرة أسقط الجزية عنهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقاهم وجعلهم بذلك خولا قال وهذا شيء تفرد به والمساقاة معاملة لا تقتضي إسقاط الجزية‏.‏

الزمن والشيخ الفاني والأجير والراهب والأعمى تضرب عليهم الجزية كغيرهم على المذهب والمنصوص لأن الجزية كأجر الدار وقيل إن قلنا لا يقتلون فلا جزية كالنساء‏.‏

وأما الفقير العاجز عن الكسب فالمشهور المنصوص في عامة كتبه أن عليه جزية وفي قول موسر أخذناها منه وإلا فهي في ذمته حتى يوسر وكذا حكم الحول الثاني وما بعده وفي وجه لا يمهل ولا يقر في دارنا بل يقال إما أن تحصل الجزية بما أمكنك وإما أن نبلغك المأمن لأنه قادر على رفع الجزية بالإسلام وإذا قلنا لا يجب عقدنا له الذمة على شرط إجراء الأحكام عليه وبذل الجزية عند القدرة فإذا أيسر فهو أول حوله هكذا قاله الأصحاب وأشار الإمام إلى أن ابتداء الحول من وقت العقد‏.‏

فرع الجاسوس الذي يخاف شره لا يقر بالجزية‏.‏

الركن الرابع المكان القابل للتقرير بلاد الإسلام حجاز وغيره فالحجاز مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها أي قراها قال الإمام قال الأصحاب الطائف ووج وهو واد بالطائف وما يضاف إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من أعمالها وخيبر من مخاليف المدينة ثم الحجاز ضربان حرم مكة وغيره أما غيره فيمنع الكفار من الإقامة به وفي منعهم من الإقامة في الطرق الممتدة في بلاد الحجاز وجهان حكاهما الإمام الصحيح وهو مقتضى إطلاق الجمهور نعم لأنها من الحجاز والثاني لا لأنها ليست مجتمع الناس ولا موضع إقامة ولا يمنعون من ركوب بحر الحجاز لأنه ليس موضع إقامة ويمنعون من الإقامة في سواحله في الجزائر المسكونة في البحر ومتى دخل كافر الحجاز بغير إذن الإمام أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع من دخوله وإن استأذن في دخوله أذن له إن كان في دخوله مصلحة للمسلمين كرسالة أو عقد هدنة أو ذمة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون وإن كان دخوله لتجارة ليس فيها كثير حاجة للمسلمين لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئاً هكذا أطلقه جماعة وحكوه عن النص وفي التهذيب أنه يشرط عليه شيئاً وهو إلى رأي الإمام ولعله أراد أن قدر المشروط إلى رأي الإمام لا أصل الشرط فلا يخالف ما أطلقه غيره‏.‏

قلت هذا الاحتمال هو مراده من غير ترديد وهو مقتضى عبارته والله أعلم‏.‏

ولا يمكن من دخل بالإذن أن يقيم أكثر من ثلاثة أيام ويشرط عليه ذلك عند الدخول ولا يحسب من الثلاثة يوم الدخول والخروج ولو كان له ديون حصلت بمعاملاته بعد الدخول أو من وجه آخر ولم يمكن قبضها في الحال أمر أن يوكل مسلماً بقبضها وأخرج هو ولو كان ينتقل من قرية إلى أخرى ويقيم في كل واحدة ثلاثة أيام لم يمنع وأما حرم مكة زاده الله شرفاً فيمنع الكافر من دخوله ولو كان مجتازاً فإن جاء برسالة والإمام في الحرم بعث إليه من يسمعه ثم يخبر الإمام أو خرج إليه الإمام ويتعين عليه ذلك إذا قال الكافر لا أؤدي الرسالة إلا مشافهة وإن جاء كافر ليناظره ليسلم خرج إليه من يناظره وإن حمل ميرة خرج إليه الراغبون في الشراء وإن كان لذمي مال في الحرم أو دين وكل مسلماً ليقبضه ويسلمه إليه وإن بذل الكافر على الدخول مالا لم يجبه إليه فإن فعل فالصلح فاسد فإن دخل أخرج وثبت العوض المسمى بخلاف الإجارة الفاسدة فإنه إنما تثبت فيها أجرة المثل لأنه هنا استوفى المعوض وليس لمثله أجرة وإن دخل ولم ينته إلى الموضع المشروط وجبت الحصة من المسمى ولو دخل كافر بغير إذن الإمام أخرج وعزر إن كان علم فلو مات فيه لم يدفن فيه فإن دفن نبش وأخرج فإن تقطع ترك وفي البحر وجه أنه تجمع عظامه إن أمكن وتخرج وبهذا قطع الإمام وبالأول قال الجمهور ولو مرض فيه لم يرض فيه بل ينقل وإن خيف من النقل موته ولو مرض كافر في الحجاز خارج الحرم قال إن أمكن نقله بلا مشقة عظيمة عليه كلف الانتقال فإن خيف عليه الموت ترك حتى يبرأ وإن لم يخف الموت ولكن تناله مشقة عظيمة فالأصح تكليفه الانتقال وجواب جمهور الأصحاب أنه لا ينقل مطلقاً فلو مات في الحجاز وتعذر نقله دفن فيه ولفظ الإمام أنا نواريه مواراة الجيف وإن كان في طرف الحجاز نقل لسهولته وأطلق أكثرهم أنه يدفن فيه وقالوا إذا جاز تركه في الحجاز للمرض فللموت أولى وذكر البغوي تفصيلا جيداً وهو أنه إن أمكن نقله قبل أن يتغير نقل ولم يدفن فيه وإن خيف عليه التغير دفن للضرورة وإذا دفن حيث لا يؤذن فيه هل ينبش ويخرج عند التمكن وجهان حكاهما الإمام والصحيح المنع وبه قطع الجمهور فعلى هذا قال الإمام لا يبعد أن لا يرفع نعش قبره وأما حرم المدينة فلا يلحق بحرم مكة فيما ذكرنا لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم يتعذر الإخراج ويدفن خارجه أما غير الحجاز فيجوز تقرير الكفار فيه بالجزية ولكل كافر دخوله بالأمان وإذا استأذن كافر في الدخول لم يؤذن له إلا لحاجة لأنه لا يؤمن أن يجس أو يطلع على عورة ويتولد من إطلاعه فساد أو يفتك بمسلم ويؤذن له إذا كان في دخوله مصلحة للمسلمين كرسالة وعقد ذمة أو هدنة وإن كان يدخل لتجارة فللإمام أن يأذن له إذا رأى ذلك ويأخذ من تجارته شيئاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى وإذا دخل لبعض هذه الأغراض فليكن مكثه بقدر الحاجة وليس لكافر أن يدخل مساجد هذه البلاد بغير إذن ولا يؤذن له في دخولها لأكل ولا نوم لكن يؤذن لسماع القرآن أو الحديث والعلم قال الروياني وكذا لحاجته إلى مسلم أو حاجة مسلم إليه وإذا دخل بلا إذن إن كان جاهلا فمعذور ويعرف وإن كان عالماً عزر وقيل لا يعزر إلا أن يشرط عليه أن لا يدخل بلا إذن وجلوس القاضي في المسجد إذن للكافر في الدخول وإذا كان له خصومة وهل يفرق بين كونه جنباً وغيره وجهان سبقا في كتاب الصلاة والصحيح الأشهر أنه يكفي إذن آحاد المسلمين في دخول كل المساجد وقال الروياني لا يكفي في الجامع إلا إذن السلطان وفي مساجد القبائل والمحال وجهان أحدهما يشترط إذن من له أهلية الجهاد وأصحهما يكفي إذن من يصح أمانه وإذا قدم وفد من الكفار فالأولى أن ينزلهم الإمام في دار مهيأة لذلك أو في فضول مساكن المسلمين فإن لم يتيسر فله إنزالهم في المسجد ويجوز تعليمهم القرآن إذا رجي إسلامهم ولا يجوز إذا خيف استخفافهم وكذا القول في تعليم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه والكلام ولا يمنعون من الشعر والنحو قال الروياني ومنعه بعض الفقهاء لئلا يتطاولوا به على مسلم لا يحسنه‏.‏

قلت قال أصحابنا لا يمنع الكافر من سماع القرآن ويمنع من مس المصحف ولا يجوز تعليمه القرآن إن لم يرج إسلامه ويمنعه التعليم على الأصح وإن رجي جاز تعليمه على الأصح والله أعلم‏.‏

فرع من دخل منهم لتجارة أو رسالة لم يمكن من إظهار خمر ولا خنزير ولا يأذن له الإمام في حملها إلى دار الإسلام‏.‏

الركن الخامس المال المعقود عليه المسألة الأولى أقل الجزية دينار لكل سنة هذا هو المنصوص الموجود في كتب الأصحاب وذكر الإمام أن الأقل دينار أو اثنا عشر درهماً نقرة خالصة مسكوكة يتخير الإمام بينهما ولا يلزم الإمام أن يخيرهم بأقل الجزية بل يستحب أن يماكس حتى يأخذ من الغني أربعة دنانير ومن المتوسط دينارين وقال الإمام موضع المماكسة ما إذا لم يعلم الكافر جواز الاقتصار على دينار فإن علم تطلب الزيادة استماحة فإن امتنعوا من بذل ما زاد على دينار وجب تقريرهم بالدينار سواء فيه الغني والفقير ولو عقد بأكثر من دينار ثم علم أن الزيادة غير لازمة لزمه ما التزم كمن اشترى شيئاً أكثر من ثمن مثله فإن امتنع من الزيادة فوجهان أحدهما يقنع بالدينار وأصحهما أنه ناقض للعهد بذلك كما لو امتنع من أداء أصل الجزية وحينئذ هل يبلغ المأمن أم يقتل قولان سنذكرهما إن شاء الله تعالى فإن بلغ المأمن وعاد فطلب العقد بدينار أجبناه هكذا ذكره البغوي وأطلق الإمام أنه إذا قبل الزيادة ثم نبذ العهد إلينا لا يغتال وإذا طلب تجديد عقد بالدينار لزم إجابته ثم إن كان النبذ بعد مضي سنة لزمه ما التزم وإن كان في أثنائها لزمه بقسطه تفريعاً على المذهب فيما إذا مات الذمي في أثناء السنة‏.‏

نص أنه لو شرط على قوم أن على فقيرهم ديناراً ومتوسطهم دينارين وغنيهم أربعة جاز والاعتبار في هذه الأحوال بوقت الأخذ لا بوقت العقد ولا بما يطرأ وإن قال بعضهم أنا متوسط أو فقير قبل قوله إلا أن تقوم بينة بخلافه‏.‏

المسألة الثانية لو مات الذمي أو أسلم لو مات الذمي أو أسلم بعد مضي السنة لم تسقط الجزية كسائر الديون فتؤخذ من تركته ومنه إذا أسلم ولو مضت سنون ولم يؤد الجزية أخذت منه ولم تتداخل كالديون ولو مات أو أسلم في أثناء السنة فهل يجب قسط ما مضى كالأجرة أم لا يجب شيء كالزكاة قولان أظهرهما الأول وقيل تجب قطعاً وقيل عكسه وقيل لا تجب في الموت وفي الإسلام القولان فإن أوجبنا فهل للإمام أن يطالب في أثناء السنة بقسط ما مضى وجهان أصحهما لا ويقرب منه ما ذكره البغوي هل للإمام أن يشترط تعجيلها وجهان وجه الجواز إلحاقها بالأجرة ومتى مات وعليه جزية أخذت من تركته مقدمة على الوصية كسائر الديون فتؤخذ من تركته ومنه إذا أسلم فلو كان معها دين آدمي فالمذهب والمنصوص أنه يسوى بينها وبينه وقيل فيه الأقوال الثلاثة في اجتماع دين الله تعالى ودين الآدمي هل يقدم ذا أم ذاك أم يستوي وفي الوسيط طريقة حازمة بتقديم الجزية وهو غلط‏.‏

يستحب للإمام إذا أمكنه أن يشرط على أهل الذمة إذا صولحوا في بلدانهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين وشرط الضيافة يكون لجميع الطارقين ولا يختص بأهل الفيء هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وقيل في اختصاصهم وجهان وهل الضيافة زيادة مقصودة في نفسها أم محسوبة من الجزية وجهان أصحهما وأشهرهما أنها زيادة وراء أقل الجزية فعلى هذا إن قبلوها لزم الوفاء وجرت مجرى الزيادة على دينار وإن قلنا إنها من الجزية فعلمنا في آخر السنة أن ما ضيفوا به لا ينقص عن دينار فذاك وإن نقص لزمهم تتميمه وإذا شرطنا الضيافة ثم رأى الإمام نقلها إلى الدنانير فليس له ذلك على الأصح إلا برضاهم فإن ردت إلى الدنانير فهل يبقى للمصالح العامة أم يختص بأهل الفيء وجهان أصحهما الاختصاص كالدنانير المضروبة وتشترط الضيافة على الغني والمتوسط وفي الفقير أوجه أصحها لا تشترط عليه والثاني بلى والثالث تشترط على المعتمل دون غيره ويتعرض الإمام عند اشتراط الضيافة لأمور منها أن يبين عدد أيام الضيافة في الحول كمائة يوم أو أقل أو أكثر وفي البحر أنه لو لم يذكر عدد الأيام في الحول وشرط ثلاثة أيام مثلا عند قدوم كل قوم فوجهان إن جعلناها جزية لم يجز وإلا فيجوز‏.‏

ومنها بيان عدد الضيفان من الفرسان والرجالة وعن الحاوي أن التعرض لعدد الضيفان إنما يشترط إذا جعلنا الضيافة من الجزية فإن جعلناها وراءها جاز أن لا يبين العدد ثم إن تساووا في الجزية تساووا في الضيافة وإن تفاوتوا فاوت بينهم فيجعل على الغني ضيافة عشرين مثلا وعلى المتوسط عشرة والفقير إن قلنا باشتراطها عليه خمسة وفي وجه يسوي بينهم في الضيافة وإن تفاوتوا في الجزية ولو شرط عدد الضيفان على جميعهم وقال تضيفون في كل سنة ألف مسلم قال الروياني يكفي ذلك ثم هم يوزعونها أو يتحمل بعضهم عن بعض‏.‏

ومنها بيان ذلك الطعام والأدام وجنسهما فيقول لكل واحد كذا من الخبز وكذا من السمن أو الزيت ويتعرض لعلف الدواب من التبن أو الحشيش أو القت ولا يحتاج إلى ذكر قدر العلف وإن ذكر الشعير بين قدره وإطلاق العلف لا يقتضي الشعير نص عليه‏.‏

ومنها منزل الضيفان من فضول منازلهم أو كنائسهم أو بيوت الفقراء الذين لا يضيفون وليكن الموضع بحيث يدفع الحر والبرد ولا يخرجون أهل المنازل منها‏.‏

ومنها أن يبين مدة مقام الضيف ولا يزيد على ثلاثة أيام وقال ابن كج يشترط على المتوسط ثلاثة أيام والغني ستة قال الإمام وإذا حصل التوافق على الزيادة فلا منع ولا يفرق بين الطبقات في جنس الطعام‏.‏

فرع لو أراد الضيف أن يأخذ منهم ثمن الطعام لم يلزمهم ولو أراد أن يأخذ الطعام ويذهب به ولا يأكله فله ذلك بخلاف طعام الوليمة لأن هذه معاوضة وتلك مكرمة ولا يطالبهم بطعام الأيام الثلاثة في اليوم الأول ولو لم يأتوا بطعام اليوم فهل للضيف المطالبة من الغد إن جعلنا الضيافة محسوبة من الدينار فله ذلك وإلا فلا ولا تلزمهم أجرة الطبيب والحمام وثمن الدواء ولو تنازعوا في إنزال الضيف فالخيار له ولو تزاحم الضيفان على ذمي فالخيار له ولو قل عددهم وكثر الضيفان فالسابق أحق فإن تساووا أقرع وليكن للضيفان عريف يرتب أمرهم‏.‏

 فصل تؤخذ الجزية على سبيل الصغار والإهانة

بأن يكون الذمي قائماً والمسلم الذي يأخذها جالساً ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطئ رأسه ويصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته وهي مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن من اللحي وهذا معنى الصغار عند بعضهم وهل هذه الهيئة واجبة أم مستحبة وجهان أصحهما مستحبة ويبنى عليهما أنه هل يجوز أن يوكل الذمي مسلماً بأداء الجزية وأن يضمنها مسلم عن ذمي وأن يحيل ذمي بها على مسلم فإن أوجبنا إقامة الصغار عند أداء الجزية لم يجز وإن قلنا المقصود تحصيل ذلك المال ويحصل الصغار بالتزامه المال والأحكام كرهاً جاز والضمان أولى بالصحة لأنه لا يمنع مطالبة الذمي وإقامة الصغار عليه ولو وكل ذمي ذمياً بالأداء قال الإمام الوجه طرد الخلاف ولو وكل مسلماً في عقد الذمة له جاز لأن الصغار يرعى عند الأداء دون العقد‏.‏

قلت هذه الهيئة المذكورة أولاً لا نعلم لها على هذا الوجه أصلاً معتمداً وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين وقال جمهور الأصحاب تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها مع أخذهم الجزية وقد قال الرافعي رحمه الله في أول كتاب الجزية الأصح عند الأصحاب تفسير الصغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم وقالوا أشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله والله أعلم‏.‏

 فصل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه طلب الجزية من نصارى العرب

وهم تنوخ وبهراء وبنو تغلب وهم قبائل من العرب تنصروا لا يعلم متى تنصروا وهم مقرون بالجزية فقالوا نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الزكاة فقال عمر رضي الله عنه هذا فرض المسلمين فقالوا زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على أن تضعف عليهم الزكاة‏.‏

قال الأصحاب ولم يخالف عمر أحد من الصحابة رضي الله عنهم فصار كالإجماع وعقد الذمة لهم مؤبداً فليس لأحد نقض ما فعله قالوا وفيه إشكال من وجهين‏.‏

أحدهما أنه ربما كان فيهم من يقل ماله الزكوي فيكون المأخوذ منه أقل من دينار وربما قلت أموالهم الزكوية فينقص المأخوذ عن دينار لكل رأس‏.‏

الثاني أنه وإن وفى المأخوذ بدينار لكل رأس فربما كان فيهم من لا يملك مالا زكوياً فيكون قد قرر بلا جزية ولا يجوز ذلك وإن بذل غيره أكثر من دينار كما لو قال واحد خذوا مني عشرة دنانير على أن لا جزية على تسعة معي ولم ينقل أنه رضي الله عنه سأل عن هذه الأمور وأجيب عن الأول بأن فعله رضي الله عنه محمول على أن المأخوذ لا ينقص عن دينار لكل رأس أو أنه شرط عليهم الإتمام إن نقص وقيل احتمل ذلك لأنه إن نقص في وقت فربما زاد في وقت فتجبر الزيادة النقص وعن الثاني بأن المأخوذ من أصحاب الأموال الزكوية مأخوذ عنهم وعن الآخرين ولبعضهم أن يلتزم عن نفسه وعن غيره وغرضنا تحصيل دينار عن كل رأس هذا ما ذكره ابن أبي هريرة والأكثرون وقال أبو إسحاق لا يجوز لأن فيه تقرير بعضهم بلا مال وأجري الوجهان فيما لو التزم واحد عشر دنانير عنه وعن تسعة إذا تقرر هذا فلو طلب قوم من أهل الكتاب أن يؤدوا الجزية باسم الصدقة ولا يؤدوها باسم الجزية فللإمام إجابتهم إذا رأى ذلك ويسقط عنهم الإهانة واسم الجزية ويأخذ ضعف الصدقة وسواء في هذا العرب والعجم وقيل يختص الجواز بالعرب لشرفهم والصحيح الأول ويشترط عليهم بمال الزكاة وقدرها ويكفي أن يقول الإمام جعلت عليكم ضعف الصدقة أو صالحتكم على ضعف الصدقة والمأخوذ جزية تصرف مصرف الفيء ولا يؤخذ شيء من أموال الصبيان والمجانين والنسوة وينظر في الحاصل هل يفي بدينار عن كل رأس فإن لم يف زاد إلى ثلاثة أضعاف فأكثر وهل يدخل الفقير في التوزيع فيه الخلاف السابق في أنه تؤخذ منه جزية أم لا ولو كثروا وعسر عددهم لمعرفة الوفاء بالدينار فهل يجوز الأخذ بغلبة الظن وجهان أصحهما لا بل يشترط تحقق أخذ دينار عن كل رأس ويجوز الاقتصار على قدر الصدقة وعلى نصفها إذا حصل الوفاء بالدينار واستحب جماعة زيادة شيء على قدر الصدقة لإسقاط اسم الجزية ولم يستبعد الإمام المنع لما فيه من تشبيههم بالمسلمين في المأخوذ وحط الصغار بلا غرض مالي وإذا شرط ضعف الصدقة وزاد على دينار ثم سألوا إسقاط الزيادة وإعادة اسم الجزية أجيبوا على الصحيح‏.‏

يأخذ من خمس من الإبل شاتين ومن عشر أربعاً ومن خمس وعشرين بنتي مخاض ومن أربعين شاة شاتين ومن ثلاثين بقرة تبيعتين ومن عشرين ديناراً ديناراً ومن مائتي درهم عشرة دراهم ومما سقت السماء الخمس ومما سقي بالنواضح العشر ومن الركاز خمسين وعلى هذا القياس ومن مائتي بعير ثمان حقاق أو عشر بنات لبون ولا يفرق فيؤخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون كما لا يفرق في الصدقة ومن ستين بقرة أربعة أتبعة لا ثلاث مسنات ومن ست وأربعين بعيراً حقتين فإن لم يجدهما فبنتي لبون مع الجيران ومن ست وثلاثين بنتي لبون فإن لم يجد فبنتي مخاض مع الجيران وفي تضعيف الجبران وجهان أحدهما تضعف فيؤخذ مع كل بنت مخاض شاتان أو عشرون درهماً فإن لم نجد في مال صاحب الست والثلاثين بنت لبون وعنده حقاق أخذنا حقتين ورددنا جبرانين ولا يضعف الجبران هنا قطعاً ويخرج الإمام الجبران من الفيء كما يصرفه إذا أخذه إلى الفيء وهل يؤخذ من بعض النصاب قسطه من واجب النصاب كشاة من عشرين ونصف شاة من عشر فيه قولان أظهرهما لا والثاني نعم رواه البويطي فعلى هذا يؤخذ من مائة شاة ونصف شاة ثلاث شياه ومن سبعة أبعرة ونصف ثلاث شياه ومن خمس وثلاثين بقرة تبيع ومسنة وأجرى الخلاف في الأوقاص هل يحط عنهم أم يجب قسط المأخوذ في حقهم وقيل إن أدى الأخذ من الوقص إلى التشقيص مع التضعيف لم يؤخذ وإلا فيؤخذ‏.‏

إذا ضرب الجزية على ما يحصل من أرضهم من ثمر وزرع باسم الصدقة فباع أرضهم صح بيعه فإن بقي مع البائع ما بقي الحاصل منه بالمشروط عليه فذاك وإلا انقلبت الجزية إلى رقبة البائع وأما المشتري فإن كان مسلماً فلا شيء عليه فيما اشتراه وإن كان ذمياً فإن كانت الجزية على رقبته فكذلك وإن كانت على حاصل أرضه زاد الواجب بما اشتراه‏.‏

 فصل إذا استأذن حربي في دخول دار الإسلام أذن له الإمام

إن كان يدخل لرسالة أو حمل ميرة أو متاع تشتد حاجة المسلمين إليه قال الإمام ولا يجوز توظيف مال على رسول ولا على مستجير لسماع كلام الله تعالى لأن لهما الدخول بلا إذن وإن كان يدخل لتجارة لا تشتد الحاجة إليها جاز للإمام أن يأذن له ويشرط عليه عشر ما معه من مال التجارة ولو دخل غير تاجر بأمان مسلم لم يطالب بشيء وقيل إن دخل الحجاز وجب دينار لعظم حرمته ولو رأى الإمام أن يزيد المشروط على العشر جاز على الأصح ويجتهد فيه كما في زيادة الجزية على دينار ولو رأى أن يحط الضريبة عن العشر ويردها إلى نصف العشر فما دونه فله ذلك و له أن يشرط في نوع من تجارتهم نصف العشر وفي غيره العشر ولو رأى أن يأذن لهم بغير شيء جاز على الأصح وبه قطع الجمهور لأن الحاجة تدعو إليه لاتساع المكاسب وغيره ثم إن كان المشروط أن يأخذ من تجارة الكافر أخذ سواء باع أم لا وإن كان المشروط أن يأخذ من ثمن تجارته لم يأخذ حتى يبيع وأما الذمي فله أن يتجر فيما سوى الحجاز من بلاد الإسلام ولا يؤخذ من تجارته شيء قال في البيان إلا أن يشترط عليه مع الجزية شيء من تجارته فلو أراد أن يدخل الحجاز ويتجر فيه فقد ذكر الغزالي في الوجيز خلافاً في أنه هل يؤخذ منه شيء ولا وجود لهذا الخلاف في شيء من كتب الأصحاب ولم يذكره الإمام والغزالي في الوسيط بل الذي نقله الأصحاب أن الذمي في الحجاز كالحربي في سائر بلاد الإسلام وما يؤخذ من الذمي لا يؤخذ في كل سنة إلا مرة كالجزية وكذا الحربي إذا أخذت منه الضريبة مرة لا تؤخذ ثانياً حتى يمضي إذا كان يطوف في بلاد الإسلام بأجر أو يكتب له وللذمي براءة حتى لا يطالب في بلد آخر قبل الحول فإن رجع إلى دار الحرب ثم عاد في الحول فهل تؤخذ كل مرة أم لا تؤخذ إلا مرة وجهان أصحهما الثاني وهو ظاهر نصه والإمام بالخيار فيما يضربه بين استيفائه دفعة أو دفعات ثم ما ذكرنا من أخذ المال من تجارة الحربي أو الذمي هو فيما إذا شرط الإمام عليه فأما إذا أذن لحربي في دار الإسلام أو لذمي في دخول الحجاز بلا شرط فوجهان أحدهما تؤخذ حملا للمطلق على المعهود وأصحهما المنع لأنهم لم يلتزموا‏.‏

المرأة التابعة للزوج أو القريب في عقد الذمة إذا ترددت متجرة في الحجاز أو في غير الحجاز حكمها حكم الذمي‏.‏

 فصل إذا صالحنا طائفة من الكفار على أن تكون أرضهم لهم ويؤدوا خراجاً

عن كل جريب في كل سنة كذا جاز ويستمر ملكهم ويكون المأخوذ جزية تصرف مصرف الفيء والتوكيل بإعطائه كالتوكيل بإعطاء الجزية ويشترط أن يبلغ قدراً يخص كل واحد من أهل الجزية منه ديناراً إذا وزع على رؤوسهم ويلزمهم ذلك زرعوا أم لا ولا يؤخذ من أرض صبي ولا مجنون ولا امرأة ولهم بيع تلك الأرض وهبتها وإجارتها وإذا أجر بعضهم بعضها لمسلم بقي الخراج على المكري ويلزم المستأجر الأجرة وإن باع لمسلم انتقل الواجب إلى رقبة البائع ولا خراج على المشتري ولو أسلموا بعد الصلح سقط الخراج ويلزمهم أن يؤدوا عن الموات الذي يمنعوننا منه دون ما لا يمنعون منه ولو أحيوا منه شيئاً بعد الصلح لم يلزمهم شيء لما أحيوا إلا إذا شرط عليهم أن يؤدوا عما يحيون ولو صالحناهم على أن الأرض لنا ويسكنونها ويؤدون عن كل جريب فهو عقد إجازة والمأخوذ أجرة فتجب معها الجزية ولا يشترط أن تبلغ ديناراً عن كل رأس وتؤخذ من أرض النساء والصبيان الطرف الثاني في أحكام عقد الذمة فإذا صح عقدها لزمنا شيء ولزمهم شيء أما ما يلزمنا فأمران‏:‏ أحدهما الكف عنهم بأن لا يتعرض لهم نفساً ومالا ويضمنهما المتلف ولا يتعرض لكنائسهم على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى ولا تتلف خمورهم وخنازيرهم إلا إذا أظهروها فمن أراق أو قتل من غير إظهار عصى ولكن لا ضمان ولو باع ذمي لمسلم خمراً أريقت على المسلم ولا ثمن للذمي وإن غصبها من ذمي وجب ردها على الصحيح وعليه مؤنة الرد قال البغوي ولو كان لمسلم على ذمي دين فقضاه وجب القبول إذا لم يعلم أن المؤدى ثمن محرم فإن علم بأن باع الخمر بين يديه وأخذ ثمنها فهل يجبر على قبوله وجهان أصحهما لا يجبر وهو المنصوص بل لا يجوز القبول ولو كان لذمي على ذمي دين ورهن به خمراً لم يتعرض لهما كما لو باعه الخمر فإن وضعاها عند مسلم لم يكن له إمساكها ولو كان لمسلم على ذمي دين فرهن به خمراً لم يجز‏.‏

الأمر الثاني يلزم الإمام دفع من قصدهم من أهل الحرب إن كانوا في دار الإسلام فإن كانوا مستوطنين دار الحرب وبذلوا الجزية لم يجب الذب عنهم وإن كانوا منفردين ببلدة في جوار الدار وجب الذب على الأصح هذا إذا جرى العقد مطلقاً فإن جرى بشرط أن يذب أهل الحرب وجب الوفاء بالملتزم وفيه احتمال للإمام وإن جرى بشرط أن لا يذب عنهم فإن كانوا مع المسلمين أو في موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان مرورهم على المسلمين فسد الشرط وكذا العقد على الصحيح وإن كانوا منفردين ولا يمر أهل الحرب بهم صح الشرط وحكى الإمام وجهاً أن شرط ترك الذب فاسد مطلقاً والصحيح الأول وهل يكره فيه نصان حملوهما على حالين فإن طلب الإمام الشرط كره لأن فيه إظهار ضعف المسلمين وإن طلب أهل الذمة فلا ويجب دفع المسلمين وأهل الذمة عنهم كما يجب دفع أهل الحرب فإن لم يدفع عنهم حتى مضى حول لم تجب جزيته كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التمكن من الانتفاع ولو أغار أهل الحرب على أهل الذمة وأخذوا أموالهم ثم ظفر الإمام بهم فاسترجعها لزمه ردها على أهل الذمة فإن أتلفوا فلا ضمان عليهم كما لو أتلفوا مال المسلمين ومن أغار من بيننا وبينه هدنة وأتلف أموال أهل الذمة ضمن فإن نقضوا العهد وامتنعوا ثم أغاروا وأتلفوا لهم مالا أو نفساً ففي الضمان قولان كأهل البغي‏.‏

 فصل وأما ما يلزمهم فخمسة أمور

الأول في الكنائس والبيع فالبلاد التي في حكم المسلمين قسمان أحدهما ما أحدثه المسلمون كبغداد والكوفة والبصرة فلا يمكن أهل الذمة من إحداث بيعة وكنيسة وصومعة راهب فيها ولو صالحهم على التمكن من إحداثها فالعقد باطل والذي يوجد في هذه البلاد من البيع والكنائس وبيوت النار لا ينقض لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية فاتصل بها عمارة المسلمين فإن عرف أحدث شيء بعد بناء المسلمين نقض‏.‏

الثاني بلاد لم يحدثوها ودخلت تحت أيديهم فإن أسلم أهلها كالمدينة واليمن فحكمها كالقسم الأول وإلا فإما أن تفتح عنوة أو صلحاً الضرب الأول ما فتح عنوة فإن لم يكن فيها كنيسة أو كانت وانهدمت أو هدمها المسلمون وقت الفتح أو بعده فلا يجوز لهم بناؤها وهل يجوز تقريرهم على الكنيسة القائمة وجهان أصحهما لا وبه قطع جماعة الثاني ما فتح صلحاً وهو نوعان أحدهما فتح على أن رقبة الأرض للمسلمين وهم يسكنونها بخراج فإن شرطوا إبقاء البيع والكنائس جاز وكأنهم صالحوا على أن الكنائس لهم وما سواها لنا وإن صالحوا على أحدثها أيضاً جاز ذكره الروياني وغيره وإن أطلقوا لم تبق الكنائس على الأصح الثاني ما فتح على أن البلد لهم يؤدون خراجه فيقرون على الكنائس ولا يمنعون من إحداثها فيه على الأصح لأن الملك والدار لهم ويمكنون فيها من إظهار الخمر والخنزير والصليب وإظهار ما لهم من الأعياد وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل ولا شك في أنهم لا يمنعون من إيواء الجاسوس وتبليغ الأخبار وما يتضرر به المسلمون في ديارهم وحيث قلنا لا يجوز الإحداث وجوزنا إبقاء الكنيسة فلا منع من عمارتها إذا استرمت وهل يجب إخفاء العمارة وجهان أحدهما نعم لأن إظهارها زينة تشبه الاستحداث وأصحهما لا فيجوز تطيينها من داخل وخارج ويجوز إعادة الجدار الساقط وعلى الأول يمنعون من تطيين خارجها وإذا أشرف الجدار على الخراب فلا وجه إلا أن يبنوا جداراً داخل الكنيسة وقد تمس الحاجة إلى جدار ثالث ورابع فينتهي الأمر إلى أنه لا يبقى من الكنيسة شيء ويمكن أن يكتفي من يوجب الإخفاء بإسبال ستر تقع العمارة وراءه أو بإيقاعها في الليل وإذا انهدمت الكنيسة المبقاة فلهم إعادتها على الأصح ومنعها الاصطخري وابن أبي هريرة فإن جوزنا فليس لهم توسيع خطتها على الصحيح ويمنعون من ضرب الناقوس في الكنيسة كما يمنعون من إظهار الخمر وقيل لا يمنعون تبعاً للكنيسة وهذا الخلاف في كنيسة بلد صالحناهم على أن أرضه لنا فإن صالحناهم على أن الأرض لهم فلا منع قطعاً كما سبق قال الإمام وأما ناقوس المجوس فلست أرى فيه ما يوجب المنع وإنما هو محوط وبيوت يجمع فيها المجوس جيفهم وليس كالبيع والكنائس فإنها تتعلق بالشعار‏.‏

الأمر الثاني في البناء فيمنعون من إطالته ورفعه على بناء جيرانهم من المسلمين فإن فعلوا هدم هذا هو المذهب وحكى ابن كج قولاً آخر أن لهم الرفع فعلى المذهب الاعتبار ببناء جاره على الصحيح وفي وجه لا يطيل على بناء أحد من المسلمين في ذلك المصر وسواء كان بناء الجار معتدلا أو في غاية القصر وللإمام احتمال فيما هو في غاية القصر ثم المنع لحق الدين لا لمحض حق الجار فيمنع ولو رضي الجار وهذا المنع واجب وقيل مستحب ويمنعون من المساواة على الأصح ولو كان أهل الذمة في موضع منفرد كطرف من البلد منقطع عن العمارة فلا منع من رفع البناء على الصحيح ولو ملك ذمي داراً رفيعة البناء لم يكلف هدمها فإن انهدمت فأعادها منع من الرفع وفي المساواة الوجهان ولو فتحت بلدة صلحاً على أنها للمسلمين لم تهدم أبنيتهم الرفيعة فيها ويمنعون من الأحدث ذكره البغوي‏.‏

الثالث يمنعون من ركوب الخيل على الصحيح لأن فيه عزاً وحكى ابن كج أن لا منع كما لا منع من ثياب نفيسة واستثنى الشيخ أبو محمد البراذين وفي البغال وجهان أحدهما المنع وبه قال الفوراني والإمام والغزالي وأصحهما لا منع وبه قطع كثيرون ولا منع من الحمر وإن كانت رفيعة القيمة وإذا ركبوا لم يركبوا السروج بل الأكف ويركبون عرضاً وهو أن يجعل الراكب رجليه من جانب واحد وعن الشيخ أبي حامد أن لهم الركوب على استواء ويحسن أن يتوسط فيفرق بين أن يركب إلى مسافة قريبة في البلد أو إلى مسافة بعيدة فيمنع في الحضر ويكون ركابهم من خشب لا حديد وجوز ابن أبي هريرة الحديد ويمنعون من تقلد السيوف وحمل السلاح ومن لجم الذهب والفضة وذكر ابن كج أن هذا كله في الذكور البالغين فأما النساء والصغار فلا يلزمون الصغار كما لا جزية عليهم‏.‏

فرع لا يترك لذمي صدر الطريق بل يلجأ إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون فإن دخلت الطرق عن الزحمة فلا حرج وليكن الضيق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار ولا يوقر ولا يصدر في مجلس إذا كان فيه مسلمون ولا يجوز لمسلم أن يوادهم ولا أن يبدأ من لقيه منهم بسلام وإن بدأ الذمي به فلا يجيبه ذكره البغوي‏.‏

قلت هذا الذي ذكره البغوي هو وجه حكاه الماوردي والصحيح بل الصواب أن يجاب بما ثبت في الأحاديث الصحيحة وعليكم وفي هذه المسألة كلام كثير وتفصيل أوضحته في كتاب السلام من كتاب الأذكار والله أعلم‏.‏

الرابع يؤخذ أهل الذمة في دار الإسلام بالتميز في اللباس بأن يلبسوا الغيار وهو أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل هكذا أطلق ويشبه أن يقال لا يختص بالكتف والشرط الخياطة في موضع لا يعتاد وإلقاء منديل ونحوه كالخياطة ثم الأولى باليهود العسلي وهو الأصفر وبالنصارى الأزرق أو الأكهب ويقال له الرمادي وبالمجوس الأسود أو الأحمر ويؤخذون أيضاً بشد الزنار وهو خيط غليظ على أوساطهم خارج الثياب وليس لهم إبداله بمنطقة ومنديل ونحوهما وإن لبسوا قلانس ميزت عن قلانس المسلمين بذؤابة أو علم في رأسها وإذا دخلوا حماماً فيه مسلمون أو تجردوا عن الثياب فليكن عليهم جلاجل أو في أعناقهم خواتيم حديد أو رصاص لا ذهب وفضة هكذا ذكره الجمهور وقال في المهذب يجعل في عنقه خاتم ليتميز في الحمام وفي الأحوال التي يتجرد فيها وبين العبارتين تفاوت ظاهر وإذا كان لهم شعر أمروا بجز النواصي ومنعوا من إرسال الضفائر والجمع بين الغيار والزنار تأكيد ومبالغة في شهرهم ويجوز أن يقتصر الإمام على اشتراط أحدهما وهل تؤخذ النساء بالغيار وشد الزنار والتميز في الحمام وجهان أصحهما نعم والثاني لا لندور خروجهن فلا حاجة إلى التميز فعلى الأصح قال الشيخ أبو حامد يجعل الزنار فوق الإزار وفي التهذيب وغيره تحته لئلا يصف بدنها وأشار بعضهم إلى اشتراط ظهور شيء منه‏.‏

قلت هذا لا بد منه وإلا فلا يحصل كبير فائدة والله أعلم‏.‏

والتميز في الحمام يبنى على أنه هل يجوز لهن دخوله مع المسلمات قال البغوي والأصح منعه وقد يفهم من هذا السياق أن للمسلمات دخوله بلا حجر لكن نقل الروياني وغيره عن ابن أبي قلت الأصح الأشهر أنه لا يحرم عليهن لكن يكره إن لم يكن عذر وبهذا قطع الإمام أبو بكر السمعاني المروزي من أصحابنا وقد أوضحت مسائل الحمام وما يتعلق به في آخر صفة الغسل من شرح المهذب والله أعلم‏.‏

وإذا خرجت ذمية بخف فليكن أحد خفيها أسود والآخر أبيض أو أحمر ولا يشترط التميز بكل هذه الوجوه بل يكفي بعضها‏.‏

فرع للذمي أن يتعمم ويتطلس على الصحيح ويلبس الديباج على الأصح كرفيع القطن والكتان وذكر الغزالي وجهين في أن أصل الغيار واجب أم مستحب والذي يوافق كلام الجمهور وإطلاقهم الوجوب‏.‏

الخامس الانقياد للحكم فيلزم أهل الذمة الانقياد لحكمنا هكذا أطلقه الأصحاب وحكى الإمام عن العراقيين أن المراد أنهم إذا فعلوا ما يعتقدون تحريمه يجري عليهم حكم الله تعالى فيه ولا يعتبر رضاهم وذلك كالزنى والسرقة فإنهما محرمان عندهم كشرعنا وقد بينا حكمهما في البابين وذكرنا الفرق بين أن يزني بمسلمة ويسرق مال مسلم أو يزني بذمية ويسرق مال ذمي وأما ما يعتقدون حله فقد سبق أن حد الشرب لا يقام على ذمي على الأصح وإن رضى بحكمنا ولو نكح مجوسي محرماً له لم يتعرض له فإن رفعوا إلينا ورضوا بحكمنا حكمنا وهل يجب الحكم فيه القولان المعروفان ويلزمهم كف اللسان والامتناع من إظهار المنكرات كإسماع المسلمين شركهم وقولهم ثالث ثلاثة واعتقادهم في المسيح وعزير صلى الله عليه وسلم وإظهار الخمر والخنزير والناقوس وأعيادهم وقراءتهم التوراة والإنجيل وأحدثهم الكنائس في بلادنا وإطالتهم البناء وتركهم مخالفة لما شرط فإن أظهروا شيئاً من هذه منعوا وعزروا ولكن لا ينتقض به عهدهم سواء شرط الامتناع منها في العقد أم لا فإن شرط عليهم الانتقاض بهذه الأسباب فقال الإمام يبنى ذلك على الخلاف في صحة عقد الذمة مؤقتاً إن صححناه صح العقد فينتقض إذ أظهروا وإن لم نصححه فسد العقد من أصله والحكاية عن الأصحاب أنه لا ينتقض بل يفسد الشرط ويتأبد العقد ويحمل ما جرى على تخويفهم وينتقض عهدهم بقتالهم المسلمين سواء شرط عليهم الامتناع منه أم لا هذا إذا لم تكن شبهة فلو أعانوا البغاة وادعوا أنهم لم يعرفوا الحال فقد سبق بيانه في قتال البغاة ولو منعوا الجزية أو امتنعوا من إجراء أحكام الإسلام عليهم انتقض عهدهم هكذا قاله الأصحاب قال الإمام هذا إذا منع مع القدرة فأما العاجز إذا استمهل فلا ينتقض عهده قال ولا يبعد أن يقال تؤخذ الجزية من الموسر الممتنع قهراً ولا يجعل الامتناع ناقضاً كسائر الديون ويخصص ما قاله الأصحاب بالمتغلب المقاتل قال وأما الامتناع من إجراء الأحكام فإن امتنع هارباً فلا أراه ناقضاً وإن امتنع راكباً إلى قوة وعدة فينبغي أن يدعى إلى الانقياد فإن نصب القتال انتقض عهده بالقتال ثم أسند الإمام ما ذكره من الاحتمال إلى من تقدمه فحكى عن القاضي حسين الانتقاض في القتال ونقل ابن كج قولين في امتناعهم من إجراء الأحكام وعن الحاوي أن الامتناع من البدل نقض العهد من الواحد والجماعة والامتناع من الأداء مع الاستمرار على الالتزام نقض من الجماعة دون الواحد لأنه يسهل إجباره عليه ولو زنى ذمي بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو تطلع على عورة المسلمين ونقلها إلى دار الحرب أو فتن مسلماً عن دينه ودعاه إلى دينهم ففي انتقاض عهده طرق أصحها أنه لم يجر ذكرها في العقد لم ينتقض وإلا فوجهان ويقال قولان أصحهما لا ينتقض قطعاً والثالث إن شرط انتقض وإلا فوجهان وهل المعتبر في الشرط الامتناع من هذه الأفعال أم انتقاض العهد إذا ارتكبها صرح الإمام والغزالي بالثاني وكثيرون بالأول ولا يبعد أن يتوسط فيقال إن شرط الانتقاض فالأصح الانتقاض وإلا فالأصح خلافه وألحق بالخصال الثلاث إيواء عيون الكفار وأما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص فالمذهب أنهما كالزنى بمسلمة وقيل كالقتال ولا يلحق بالمنابذة التوثب على رفقة أو شخص معين وليجر الطريقان فيما لو قذف مسلماً وسواء قلنا ينتقض العهد أو لا ينتقض فقد قال البغوي يقام عليهم موجب ما فعلوه من حد أو تعزيز ثم يجري على مقتضى الانتقاض كما سيأتي إن شاء الله تعالى وإذا قتل الذمي لقتله مسلماً أو لزنى وهو محصن فهل يصير ماله فيئاً تفريعاً على الحكم بالانتقاض وجهان‏.‏

قلت أصحهما‏.‏

وأما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء إذا جهروا به وطعنهم في الإسلام ونفيهم القرآن فالمذهب أنه كالزنى بمسلمة ونحوه وقيل ينتقض قطعاً كالقتال وفي محل الخلاف طريقان أحدهما أنه فيما إذا ذكر الذمي سواء يعتقده ويتدين به كتكذيب ونحوه فأما ما لا يعتقده ولا يتدين به بأن طعن في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نسبه إلى الزنى فليلتحق بالقتال وينتقض العهد به قطعاً سواء شرط عليه الكف عنه أم لا وأصحهما أن الخلاف فيما ذكر ما لا يتدين به فأما ما يتدين به فلا ينتقض بإظهاره قطعاً ومن هذا نفيهم القرآن‏.‏

واعلم أن ذكرهم الله تعالى كذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى فيجري فيه الخلاف صرح به الروياني وغيره ولكنهم جعلوا إظهار الشرك وقولهم ثالث ثلاثة ومعتقدهم في المسيح وعزير كإظهارهم الخمر فلا ينتقض قطعاً مع أن جميع هذا يتضمن ذكر الله تعالى بالسوء ولا يستقيم هذا إلا على الطريق الثاني وهو أن السوء الذي يتدين به لا ينقض قطعاً ونقل صاحب الشامل وغيره عن أبي بكر الفارسي أنه قال من شتم منهم النبي صلى الله عليه وسلم قتل حداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل والقينتين وزيفوه وقالوا إنهم كانوا مشركين لا أمان لهم‏.‏

فرع حيث حكمنا بانتقاض العهد هل يبلغهم المأمن قولان أحدهما نعم كمن دخل بأمان صبي وأظهرهما لا بل يتخير الإمام بين قتله واسترقاته والمن والفداء لأنه كافر لا أمان له والقولان في الانتقاض بغير قتال فأما إذا نصبوا القتال وصار حرباً لنا في دارنا فلا بد من دفعهم والسعي في استئصالهم ولو أسلم من انتقض عهده قبل أن يختار الإمام شيئاً قال الأصحاب لا يجوز استرقاقه بخلاف الأسير لأنه لم يحصل في يد الإمام بالقهر فخف أمره وهل يبطل أمان النساء والصبيان تبعاً كما يثبت تبعاً وجهان أصحهما لا إذا لم توجد منهم خيانة ناقضة فعلى هذا لا يجوز سبيهم ويجوز تقريرهم في دارنا فإن طلبوا الرجوع إلى دار الحرب أجيب النساء دون الصبيان إذ لا حكم لقولهم قبل البلوغ فإن كان الطالب ممن يستحق الحضانة أجيب إليه وإلا فلا ولو نبذ ذمي إلينا العهد واختار اللحوق بدار الحرب بلغناه المأمن على المذهب وأجرى القاضي فرع المسلم إذا ذكر الله تعالى بما يقتضي الكفر أو كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مرتد فيدعى إلى الإسلام فإن عاد وتاب قبلت توبته ولو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً فعن الشيخ أبي محمد أنه يكفر ويراق دمه قال الإمام وهذه زلة ولم أر ما قاله لأحد من الأصحاب والصواب أنه يعزر ولا يكفر ولا يقتل وما روي أن رجلا أتى قوماً وزعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرموه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله محمول على أن الرجل كان كافراً ومن قذف النبي صلى الله عليه وسلم وصرح بنسبته إلى الزنى فهو كافر باتفاق الأصحاب فإن عاد إلى الإسلام فثلاثة أوجه أحدها قال الأستاذ أبو إسحاق لا شيء عليه لأنه مرتد أسلم والثاني قال أبو بكر الفارسي يقتل حداً لأنه حد قذف فلا يسقط بالتوبة والثالث قال الصيدلاني يجلد ثمانين جلدة ثم في كلام الإمام والغزالي أنا إذا قلنا يثبت حد القذف فعفا أحد بني أعمامه فينبغي أن يسقط أو يقول هم لا ينحصرون فهو كقذف ميت ليس له ورثة خاصون ولا يبعد تخريج وجوب الحد على القولين في وجوب القصاص بقتل مثل هذا الشخص وقد يقال كل واحد من بني الأعمام غير وارث بل الإرث للأقرب ولا يكاد يعرف الأقرب ممن في الدنيا ويقع النظر في أن عفو بعض الورثة هل يؤثر ووراءه نظر آخر وهو حد قذفه هل يورث فيجوز أن يقال لا يورث كما لا يورث المال أما إذا لم يقذف صريحاً لكن عرض فقال الإمام الذي أراه أنه كالسب الصريح في اقتضاء الكفر لما فيه من الاستهانة‏.‏

قلت هذا الذي قاله الإمام متعين وقد قاله آخرون ولا نعلم فيه خلافاً والله أعلم‏.‏

ولو قذف نبياً غير نبينا فهو كقذف نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏

 فصل في مسائل تتعلق بالباب

يؤخذ على أهل الذمة أن يخفوا دفن موتاهم ولا يخرجوا جنائزهم ظاهراً ولا يظهروا على موتاهم لطماً ولا نوحاً ولا يسقوا المسلمين خمراً ولا يطعموهم خنزيراً وإذا شرط ذلك عليهم فعرض بعضهم خمراً على مسلم فشربها اختياراً حد المسلم وعزر الذمي وكذا لو ابتدأ المسلم بطلبها فأجابه لكن تعزيره هنا أخف وأن لا يعلوا أصواتهم على المسلمين وأن يعينوهم إذا استعانوا بهم فيما لا يتضررون به وأن لا يستذلوا المسلمين في مهن الأعمال بأجرة ولا يتبرع حكي أكثر هذا عن الحاوي أنهم لو انفردوا بقرية هل يمنعون ركوب الخيل وجهان أحدهما لا كإظهار الخمر والثاني نعم خوفاً من أن يتقووا به على المسلمين ولو بنى ذمي في دار الإسلام بناء لأبناء السبيل مكن إن جعله للمسلمين وأهل الذمة فإن خص أهل الذمة فوجهان ويكتب الإمام بعد عقد الذمة أسماءهم وأديانهم وحلاهم فيتعرض لسنه أهو شيخ أم شاب ولكونه من سمرة وشقرة وغيرهما ويصف وجهه ولحيته وجبهته وحاجبيه وعينيه وشفتيه وأنفه وأسنانه وآثار وجهه إن كان فيه آثار ويجعل على كل طائفة عريفاً يضبطهم لمعرفة من أسلم منهم ومن مات ومن بلغ ومن قدم عليهم وليحضرهم لأداء الجزية والشكوى إليه ممن يتعدى عليهم من المسلمين ومن يتعدى منهم ويجوز أن يكون العريف للعرض الثاني ذمياً ولا يجوز للعرض الأول إلا مسلم وبالله التوفيق‏.‏

 الباب الثاني في عقد الذمة

ويقال لها الموادعة والمعاهدة وهي جائزة بنصوص الكتاب والسنة والإجماع فيه طرفان‏:‏ الأول في شروطها وهي أربعة الأول أن يتولاه الإمام أو نائبه هذا في مهادنة الكفار مطلقاً أو أهل إقليم كالهند والروم ويجوز لوالي الإقليم المهادنة مع أهل قرية أو بلدة في إقليمه للمصلحة وكأنه مأذون فيه بتفويض مصلحة الإقليم إليه‏.‏

ولو عقد الهدنة واحد من الرعية فدخل قوم ممن هادنهم دار الإسلام لم يقروا لكن يلحقون بمأمنهم لأنهم دخلوا على اعتقاد أمانه‏.‏

الثاني أن يكون للمسلمين إليه حاجة وفيه مصلحة بأن يكون في المسلمين ضعف لقلة عدد أو مال أو بعد العدو أو يطمع في إسلامهم لمخالطتهم المسلمين أو في قبولهم الجزية أو في أن يعينوه على قتال غيرهم وإذا طلب الكفار الهدنة فإن كان فيها ضرر على المسلمين فلا يخفى أنهم لا يجابون وإلا فوجهان أحدهما تجب إجابتهم والصحيح لا تجب بل يجتهد الإمام ويفعل الأصلح قال الإمام وما يتعلق باجتهاد الإمام لا يعد واجباً وإن كان يتعين عليه رعاية الأصح‏.‏

الثالث أن يخلو عن الشروط الفاسدة فإن عقدها على أن لا ينتزع أسرى المسلمين منهم أو يرد إليهم المسلم الذي أسروه وأفلت منهم أو شرط ترك مال مسلم في أيديهم فهذه شروط فاسدة وكذا لو شرط أن يعقد لهم الذمة على أقل من دينار أو على أن يقيموا بالحجاز أو يدخلوا الحرم أو يظهروا الخمور في دارنا أو شرط أن يرد عليهم إذا جئن مسلمات وكذا ولو عقد بشرط التزام مال فإن دعت ضرورة إلى بذل مال بأن كانوا يعذبون الأسرى في أيديهم ففديناهم أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطدام فيجوز بذل المال ودفع أعظم الضررين بأخفهما وفي وجوب بذل المال عند الضرورة وجهان بناء على وجوب دفع الصائل‏.‏

قلت ليس هذا البناء بصحيح فقد سبق أن الصائل إذا كان كافراً وجب دفعه قطعاً ثم الخلاف هناك في وجوب الدفع بالقتال وهنا بالمال والأصح وجوب البذل هنا للضرورة والله أعلم‏.‏

ولا يملك الكفار ما يأخذونه لأنه مأخوذ بغير حق قاله في المهذب وإذا جرى في المهادنة شرط فاسد فسد به العقد على الصحيح وبه قطع ابن الصباغ وغيره‏.‏

الرابع أن يقتصر على المدة المشروعة ثم لا يخلو إما لا يكون بالمسلمين ضعف أو يكون فإن لم يكن ورأى الإمام المصلحة في الهدنة هادن أربعة أشهر فأقل ولا يجوز أكثر من سنة قطعاً ولا سنة على المذهب ولا ما بينهما وبين أربعة الحاجة ولا تجوز زيادة على العشر لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد وقيل تجوز الزيادة على عشر بحسب الحاجة وقيل لا يجوز أكثر من سنة وقيل لا يجوز أكثر من أربعة أشهر وهذه أوجه شاذة مردودة فإذا قلنا لا تجوز الزيادة على عشر فهادن مطلقاً فالعقد فاسد وقيل ينزل عند ضعف المسلمين على عشر وعند القوة قولان أحدهما ينزل على سنة والثاني على أربعة أشهر ويجوز أن لا يوقف الإمام الهدنة ويشرط انقضاءها متى شاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم هادن يهود خيبر وقال ‏"‏ أقركم ما أقركم الله ‏"‏ لكن لو اقتصر الإمام على هذه اللفظة أو قال هادنتكم إلى أن يشاء الله فسد العقد لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره ولو قال هادنتكم ما شاء فلان وهو مسلم عدل ذو رأي فإذا نقضها انتقضت ولو قال ما شاء فلان منكم لم يجز لأن الكافر لا يحكم على المسلمين‏.‏

فرع إذا زاد قدر مدة الهدنة على الجائز بأن زاد عند الضعف عل عشر سنين أو احتاج إلى أربع مثلا فزاد بطل العقد في الزائد وفي الباقي قولاً تفريق الصفقة وقيل يصح فيه قطعاً لعدم العوض ولأنه يتسامح في معاقدة الكفار‏.‏

فرع إذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله تعالى وجبت إجابته قطعاً كما سبق قال الإمام وهل يمهل لذلك أربعة أشهر أم يقال إذا لم يفصل الأمر بمجالس يحصل فيها البيان التام يقال له الحق بمأمنك فيه تردد أخذته من فحوى كلام الأصحاب والأصح المنع‏.‏

الطرف الثاني في أحكامها فمتى فسد العقد لزيادة المدة أو لالتزام مال أو غيرهما لا يمضى بل يجب نقضه لكن لا يجوز اغتيالهم بل يجب إنذارهم وإعلامهم وإذا وقع صحيحاً وجب الوفاء بالكف عنهم إلى انقضاء المدة أو صدور خيانة منهم تقتضي الانتقاض وإذا مات الإمام الذي عقدها أو عزل وجب على الإمام الذي بعده إمضاؤه فإن رآه فاسداً قال الروياني إن كان فساده من طريق الاجتهاد لم يفسخه وإن كان بنص أو إجماع فسخه وينبغي للإمام إذ هادن أن يكتب عقد الهدنة ويشهد عليه ليعمل به من بعده ولا بأس أن يقول فيه لكم ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمتي ومتى صرحوا بنقض العقد أو قاتلوا المسلمين أو آووا عيناً عليهم أو كاتبوا أهل الحرب أو قتلوا مسلماً أو أخذوا مالا أو سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقض عهدهم ولا يفتقر إلى أن يحكم الحاكم بنقضه قال الإمام والمضرات التي اختلف في انتقاض عقد الذمة بها تنقض الهدنة بلا خلاف لأن الهدنة ضعيفة غير متأكدة ببذل الجزية وإذا انتقض عهدهم جاز قصد بلدهم وتبييتهم والإغارة عليهم إن علموا أن ما فعلوه ناقض وكذا إن لم يعلموا على الأصح وقيل لا يقاتلون إلا بعد إنذارهم وينبغي أن يقال إذا لم يعلموا أنه خيانة لا ينتقض العهد إلا إذا كان المفعول مما لا يشك في مضادته للهدنة كالقتال ثم ما ذكرنا من قصدهم والإغارة عليهم هو إذا كانوا في بلادهم فأما من دخل دارنا بأمان أو مهادنة فلا يغتال وإن انتقض عهده بل يبلغ المأمن هذا إذا نقض جميعهم العهد فإن نقضه بعضهم نظر إن لم ينكر الآخرون على الناقضين بقول ولا فعل بل ساكنوهم وسكتوا انتقض عهدهم أيضاً وإن أنكر بقول أو فعل بأن اعتزلوهم أو بعثوا إلى الإمام بأنا مقيمون على العهد لم ينتقض هكذا أطلقه جماهير الأصحاب ووراءه شيئان غريبان أحدهما قال الإمام لو بدت خيانة بعضهم وسكت الآخرون كان للإمام أن ينبذ إليهم والثاني في كتاب ابن كج أنه لو نقض السوقة وجهان وجه المنع أنه لا اعتبار بعقدهم فكذا بنقضهم وأنه لو نقض الرئيس وامتنع الأتباع وأنكروا ففي الانتقاض في حقهم قولان وجه النقض أنه لم يبق العقد في حق المتبوع فكذا التابع والصحيح ما سبق وإذا انتقض في حق بعضهم فإن تميزوا فذاك وإلا فلا يبيتهم الإمام ولا يغار عليهم إلا بعد الإنذار ويبعث إلى الذين لم ينقضوا ليتميزوا أو يسلموهم فإن لم يفعلوا مع القدرة صاروا ناقضين أيضاً ومن أخذ منهم واعترف بأنه من الناقضين أو قامت عليه بينة لم يخف حكمه وإلا فيصدق بيمينه أنه لم ينقض وأما عقد الذمة فنقضه من البعض ليس نقضاً من الباقين بحال‏.‏

فرع إذا استشعر الإمام ممن هادنه خيانة وظهرت أمارة تدل على خيانتهم فقال الشيخ أبو حامد ينتقض عهدهم والصحيح المنصوص أنه لا ينتقض بل للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم وحكي قول أنه لا ينبذه كما لا ينبذ عقد الذمة بالتهمة وحكي وجه في نبذ الذمة بالتهمة والمذهب الفرق وإذا نبذه فلا بد من إنذارهم وإبلاغهم المأمن لكن من عليه حق آدمي من مال أو حد قذف أو قصاص يستوفى منه أولاً والمعتبر في إبلاغ الكافر المأمن أن يمنعه من المسلمين ومن أهل عهدهم ويلحقه بدار الحرب واكتفى ابن كج بإلحاقه بأول بلاد الكفر وقال لا يلزم إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك إلا أن يكون بين أول بلاد الكفر وبلده الذي يسكنه بلد للمسلمين يحتاج إلى المرور عليه وفي البحر أنه لو كان له مأمنان لزم الإمام إلحاقه بمسكنه منهما ولو كان يسكن بلدين فالاختيار للإمام وفي هذا ما ينازع في الاكتفاء بأول بلاد الكفر ولو لم تظهر أمارة يخاف بسببها منهم نبذ العهد ولا اعتبار الوهم المحض حكي ذلك عن نصه في الأم‏.‏

فرع إذا هادن الإمام مدة لضعف وخوف اقتضاها ثم زال الخوف وقوي المسلمون وجب الوفاء بما جرى‏.‏

فرع قال في الحاوي يجب على الذين هادنهم الإمام الكف عن قبيح القول والعمل في حق المسلمين وبذل الجميل منهما فلو كانوا يكرمون المسلمين فصاروا يهينونهم أو يضيفون النزيل ويصلونهم فصاروا يقطعونهم أو يعظمون كتاب الإمام فصاروا يستخفون به أو نقصوا عما كانوا يخاطبون به سألهم الإمام عن سبب فعلهم فإن اعتذروا بما يجوز قبول مثله قبله وإن لم يذكروا عذراً أمرهم بالرجوع إلى عادتهم فإن امتنعوا أعلمهم بنقض الهدنة ونقضها‏.‏

 فصل إذا شرط رد المرأة إذا جاءتنا منهم مسلمة لم يجز

بحال وشرط رد الرجل إذا هاجر مسلماً جائز في الجملة والفرق أنه لا يؤمن أن يصيبها زوجها الكافر أو أن تزوج كافراً ولأنها عاجزة عن الهرب وأقرب إلى الافتتان فإذا عقد الإمام هدنة فإما أن يشرط أن لا يرد من جاء مسلماً أو يطلق أو يشرط الرد أو يشرط أن لا يرد فلا رد ولا غرم وكذا لو خص النساء يمنع الرد وإن أطلق فهل يغرم الإمام مهر من جاءت مسلمة قولان أظهرهما لا وقيل إن كان قبل الدخول وجب الغرم قطعاً قال ابن الصباغ هذا سهو من قائله وإن شرط الرد نظر إن أطلق فقال بشرط أن نرد من جاءنا منهم ففي وجوب الغرم القولان وقد يقال إن أوجبنا عند الإطلاق فهنا أولى وإلا فقولان ولو صرح بشرط رد النساء فهو فاسد وفي فساد العقد به ما سبق فإن لم يفسده ففي الغرم الخلاف السابق بالترتيب ويتفرع على وجوب الغرم مسائل‏:‏ منها المغروم وهو المبذول من صداقها وقال الماوردي عندي أنه هو الأقل من مهر المثل والمبذول والصحيح الأول وبه قال الجمهور ولو لم يدفع إليها شيئاً فلا شيء له ولو لم يدفع إلا بعضه لم يستحق إلا ذلك القدر ولو كان أعطاها أكثر من المسمى لم يستحق الزيادة كما لا يستحق ما أطعمها وكساها وأنفقه في العرس لأنه متبرع به ولأنه ليس بدل البضع الذي حلنا بينه وبينه‏.‏

ومنها لا يثبت الغرم بمجرد قوله أعطيتها صداقها بل ينظر إن أنكرت النكاح فهي المصدقة وعليه البينة وإن صدقته وأنكرت القبض ففي الشامل وغيره أنها تصدق باليمين وعليه البينة وقال الروياني لا يمين عليها لأن الصداق على غيرها وقال الشيخ أبو حامد يفحص الإمام عن مهر مثلها فقد يعرفه من تجار المسلمين الذين دخلوا دار الحرب ومن الأسارى ثم يحلف الرجل أنه أصدقها ذلك القدر وسلمه ولو ادعى الدفع وصدقته فقد نقل الإمام عن العراقيين أن إقرارها كالبينة وقالوا تعسر إقامة البينة على ما يجري بين الكفار ورأى الإمام أن يعتمد قولها ولا يجعله حجة علينا‏.‏

ومنها محل الغرم سهم المصالح وحكى ابن كج وجهاً أنه إن كان للمرأة مال أخذ منها والصحيح الأول فإن هاجرت إلى بلد فيه الإمام غرم المهر وإن هاجرت إلى بلد فيه نائبه فكذلك وهل المعتبر نائبه في عقد الهدنة أم في بيت المال وجهان وإن هاجرت إلى بلد ليس فيه الإمام ولا نائبه فعلى أهل البلد منعها حسبة ولا يغرمون المهر قال ابن كج وليس على الإمام والحالة هذه رد المهر كما لو جاء رجل إلى غير بلد الإمام لا يلزمه أن يخلي بينه وبين من يطلبه والأحسن ما حكاه البغوي وغيره أنه إن قال عند المهادنة من جاءني منكم مسلماً رددته لم يلزمه شيء لأنها ما جاءته وإن قال من جاء المسلمين أو من جاءنا وجب‏.‏

ومنها لو وهبته الصداق أو أبرأته فعلى الخلاف في التشطر‏.‏

ومنها إذا جاءت مسلمة ثم أسلم قبل انقضاء عدتها فالنكاح مستمر وليس لها طلب المهر وإن أخذه قبل الإسلام لزمه رده إذا زالت الحيلولة وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها نظر إن أخذ المهر قبل الإسلام لم يسترجع منه وصار بالقبض كالمستهلك في الشرك وإن لم يأخذه فإن طالبت به قبل إسلامه استقر له المهر لحصول الحيلولة بإسلامها ومنعنا إياها منه وعن أبي إسحاق أنه لا مهر له والصحيح الأول وإن لم يطالب بها قبل إسلامه فلا شيء له لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين ولا مطالبة بالمهر بعد البينونة فلو كانت الصورة بحالها ولم يكن أعطاها المهر فلما أسلم بعد انقضاء العدة أخذت المهر بسبب المسيس فهل تغرم له ذلك فيه احتمالان للإمام وجعلهما الغزالي وجهين أرجحهما المنع هذا إذا كان إسلامها بعد الدخول فإن جاءت مسلمة قبل الدخول وأسلم الزوج بعدها لم يكن له طلب المهر لأنه أسلم بعد البينونة‏.‏

ومنها لو جاء في طلبها غير زوجها كأبيها وعشيرتها لم يغرم شيئاً لأن المعتبر طلب من كان له ملك البضع أو طلب وكيله ورسوله ولو جاءنا الزوج ولم يطلبها لم يغرم أيضاً وينبغي أن يكون الطلب في العدة فأما إذا بانت بانقضاء العدة فلا أثر للطلب‏.‏

ومنها إذا دخلت كافرة رددناها سواء طلبها زوجها أو محارمها فإن أسلمت بعد دخولها فهو كما لو جاءت مسلمة في أنا لا نردها وفي غرم المهر وقيل في الغرم وجهان ولو ارتدت بعد الإسلام وجاء الزوج يطلبها نظر إن طلبها بعد قتلها لم نغرم شيئاً لحصول الحيلولة بالقتل وإن طلبها قبل القتل لم نردها لوجوب قتلها وفي الغرم وجهان أصحهما يجب لحصول الحيلولة بالإسلام‏.‏

ومنها لو جاءتنا مسلمة فجنت أو جاءتنا مجنونة ثم أفاقت وأسلمت فحكمها في الرد والغرم حكم العواقل وإن جاءت مجنونة تصف الإسلام أو لا تصفه وأخبر عنها أنها وصفته ولم نعلم أو وصفته قبل الجنون أم فيه أو لم نخبر عنها بشيء لم ترد لاحتمال الإسلام قبل الجنون ولا غرم لاحتمال أنها لم تسلم حينئذ فلا نغرم بالشك فإن أفاقت وأقرت بالإسلام غرمنا وإلا رددناها ولا ومنها إذا جاءت صبية مميزة وهي تصف الإسلام لا نردها لأنا وإن لم نصحح إسلامها فنتوقعه فيحتاط لحرمة الكلمة وقيل ترد والصحيح الأول ولا غرم في الحال على الأصح وقيل الأظهر كالمجنونة فإن بلغت ووصفت الكفر رددناها وإن وصفت الإسلام غرمنا‏.‏

ومنها لو جاءت رقيقة منهم مسلمة فلا ترد على سيدها ولا زوجها ويحكم بعتقها إن فارقتهم ثم أسلمت لأنها إذا جاءت مراغمة لهم ملكت نفسها بالقهر فتعتق كعبد قهر سيده الحربي فإنه يصير حراً وهل يغرم لسيدها قيمتها من سهم المصالح إذا جاء يطلبها فيه طريقان المذهب أنه على القولين والثاني لا غرم قطعاً لأن الحيلولة حصلت بالعتق والقهر قبل الإسلام ومن قال بالمذهب قال المانع هو الإسلام فإنها لو كانت حرة كافرة لم يمنع زوجها ولو أسلمت ثم فارقتهم وهاجرت مسلمة فقال البغوي لا تصير حرة لأنهم في أماننا وأموالهم محرمة علينا فلا يزول الملك عنها بالهجرة بخلاف ما إذا هاجرت ثم أسلمت لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فملكت نفسها بالقهر ولم يتعرض جماعة لهذا التفصيل وأطلقوا الحكم بالعتق ويجوز أن يؤخذ به لأن الهدنة جرت معنا لا معها كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الرجل إذا جاءنا مسلماً ورددناه أن له التعرض لهم ثم قال الشيخ أبو إسحاق لا ترد إلى سيدها لإسلامها وشركه ولكن نغرم له قيمتها كما لو غصب منهم مال وتلف واعترض صاحب البيان وقال الذي يقتضيه المذهب أنا لا نغرم القيمة ويأمره بإزالة الملك عنها كأمة كافر أسلمت ونعود إلى هذا الكلام والتفصيل إن شاء الله تعالى وإذا كانت الأمة مزوجة ففي غرم المهر القولان فإن قلنا بغرامة المهر والقيمة نظر إن حضر الزوج والسيد معاً أخذ كل واحد حقه وإن جاء أحدهما فقط فثلاثة أوجه أصحهما نغرم حق الطالب والثاني لا نغرم شيئاً لأن حق الرد مشترك ولم يتم الطلب والثالث نغرم للسيد إن انفرد بالطلب ولا نغرم للزوج لأن حق الرد في المزوجة للسيد آكد ألا ترى أنه يسافر بها بخلاف الزوج فإن كان زوج الأمة عبداً فلها خيار الفسخ إذا عتقت فإن فسخت النكاح لم نغرم المهر لأن الحيلولة حصلت بالفسخ وإن لم تفسخ وأوجبنا غرم المهر فلا بد من حضور الزوج والسيد جميعاً وطلب الزوج المرأة والسيد المهر فإن انفرد أحدهما لم نغرم لأن البضع غير مملوك للسيد والمهر غير مملوك للعبد‏.‏

ومنها إنما نغرم إذا طلبها الزوج فمنعناها بسبب الإسلام أما إذا مات قبل الطلب فلا غرم وكذا لو مات الزوج قبل أن يطلبها منا وإن كان قد دخل دار الإسلام ولو مات أحدهما بعد الطلب والمنع لم يسقط الغرم فإن كان هو الميت صرف المهر إلى ورثته وإن قتلت قبل الطلب فلا غرم كما لو ماتت وإن قتلت بعده ثبت الغرم ثم نقل الإمام أنه يكون على القاتل لأنه المانع بالقتل ورأى أن يفصل فيقال إن قتلها على الاتصال بالطلب فالحكم ما ذكروه وإن تأخر القتل فقد استقر الغرم علينا بالمنع فلا أثر للقتل بعده وفي الحالتين لا حق للزوج فيما على القاتل من قصاص ودية لأنه لا يرثها ولو جرحها شخص قبل الطلب ثم طلبها الزوج وقد انتهت إلى حركة المذبوحين فهو كالطلب بعد الموت وإن بقيت فيها حياة مستقرة فهل الغرم على الجارح أم في بيت المال لأن المنع في الحياة وجهان أصحهما الثاني ولا يسقط الغرم بأن يطلقها بعد طلبها وأما قبله فإن خالعها أو طلقها طلاقاً بائناً فلا غرم لأنه ترك باختياره قال الروياني وكذا لو ملكها أن تطلق نفسها على الفور وقد يلائم هذه القاعدة أن يقال يشترط كون الطلب على الفور وإن طلقها رجعياً أو طلقها فأسلمت وهي في عدة الرجعية ثم جاء الزوج يطلبها فالصحيح المنصوص أنا إنما نغرم له إذا راجعها لظهور قصد الإمساك بالرجعة وإن كانت رجعة الكافر المسلمة لا تصح قال الإمام وخرج المحققون قولاً أنه يستحق المهر بمجرد الطلب بلا رجعة لأنها فاسدة فلا معنى لاشتراطها‏.‏

فرع جميع ما ذكرناه هو في رد النساء الحرائر أما الإماء والصبيان والمجانين فلا يردون لضعفهم ولا يجوز الصلح بشرط ردهم ولا غرم في ترك ردهم كما في غير ذوات الأزواج فإذا بلغ الصبي وأفاق المجنون فإن وصفا الإسلام فذاك وإن وصفا كفراً لا يقر أهله عليه فإما أن يسلما وإما أن يردا إلى مأمنهما وإن وصفا كفراً يقر أهله فإما أن يسلما وإما أن يقبلا الجزية وإما أن يردا إلى مأمنهما وأما الذكور البالغون العقلاء فنقل الإمام في رد العبد وجهين الصحيح الذي ذكره الجمهور لا يرد لأنه جاء مسلماً مراغماً لهم والظاهر أنهم يسترقونه ويهينونه ولا عشيرة له تحميه والثاني يرد والمنع في النساء لخوف الفاحشة وهل يعتق العبد الذي جاء مسلماً قال في الحاوي إن غلبهم على نفسه ثم أسلم وهاجر عتق لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض وإن أسلم ثم غلبهم على نفسه وجاءنا نظر إن فعل ذلك قبل أن هادناهم فكذلك لأنه غلب في حال الإباحة وإن فعله بعد الهدنة لم يعتق لأن أموالهم محرمة حينئذ لا يملكها بالقهر ثم لا يرد إلى السيد وإن لم يعتق ولا يمكن من استرقاقه فإن أعتقه وإلا باعه الإمام لمسلم أو دفع قيمته من بيت المال وأعتقه عن المسلمين كافة وولاؤه لهم وأما الحر فإن لم تكن له عشيرة وغلب على الظن أنه يذل ويهان ففي رده طريقان الصحيح طرد الوجهين في رد العبد والثاني يرد قطعاً لأن الحرية في الجملة مظنة القدرة فإن قلنا يرد قال الإمام لا يبعد أن يقال على الإمام أن يشرط عليهم أن لا يهينوا المسلم المردود فإن أهانوه كانوا ناقضين للعهد وإن كان للحر عشيرة وطلبته رد كما رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل رضي الله عنه على سهيل بن عمرو لأن الظاهر أنهم يحمونه وأما كون عشيرته تؤذيه بالتقييد ونحوه فلا اعتبار به فإنهم يفعلونه تأديباً في زعمهم وإن طلبه عين عشيرته لم يرد إلا إذا كان الطالب ممن يقدر المطلوب على قهره والإفلات منه وعلى هذا حمل رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بصير رضي الله عنه وإن لم يطلبه أحد فلا رد كما لا غرم إذا لم يطلب أحد المرأة قال الأصحاب ومعنى الرد أنه لا منع من الرجوع ويخلى بينه وبين من يطلبه لا أنه يجبر على الرجوع وهذا معنى رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير رضي الله عنهما ولا يبعد تسمية التخلية رداً كما في رد الوديعة ولو شرط الإمام في الهدنة أن يبعث إليهم من جاءه مسلماً فمن الأصحاب من قال يجب الوفاء بشرطه ومقتضى هذا أن لا يعتبر الطلب ونقل الروياني عن النص أنه يفسد العقد بهذا الشرط وذكر أنهم لو طلبوا من جاء منهم وهو مقيم على كفره مكناهم منه وأنهم لو كانوا شرطوا أن يقوم برده عليهم وفينا بالشرط ولا يجب على المطلوب أن يرجع إليهم ولذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بصير رضي الله عنه امتناعه فإن اختار الإقامة في دار الإسلام لم يمنع ويقول الإمام للطالب لا أمنعك منه إن قدرت عليه ولا أعينك إن لم تقدر وعن النص أنه يستحب أن يقول للمطلوب سراً لا ترجع وإن رجعت فاهرب إذا قدرت وللمطلوب أن يقتل الطالب ولنا أن نرشده إلى قتله تعريضاً لا تصريحاً لأن الإمام إنما التزم بالهدنة أن يمتنع عنهم ويمنع الذين يعادونهم وهم المسلمون يومئذ فأما من أسلم بعد فلم يشترط على نفسه ولا تناوله شرط الإمام لأنه ليس في قبضته وفيه احتمال للإمام أنه ليس له التعرض لمن عصم الإمام دمه وماله ولهذا من جاءنا مسلماً ولم يطلب يلزمه بعقد الهدنة ما لزمنا‏.‏

فرع عن البحر كافر تحته عشر نسوة أسلمن وهاجرن وجاء يطلبهن يؤمر باختيار أربع ويعطى مهورهن على قول غرامة المهر والمستولدة إذا جاءت مسلمة كالأمة والمكاتبة إن اقتضى الحال عتقها كذلك وتبطل الكتابة وإلا فهي على كتابتها فإن أدت عتقت وللسيد الولاء وإن عجزت ورقت حسب ما أخذ من مال الكتابة بعد إسلامها من ضمانها ولا يحسب منه ما أخذ قبل الإسلام فإن بلغ المحسوب عليه قدر القيمة فقد استوفى حقه وعتقت وولاؤها للمسلمين وهل يرد عليها من بيت المال قولان بناء على أنا هل نغرم للسيد قيمة الأمة وإن كان المؤدى أكثر من القيمة لم يسترجع الفاضل من سيدها وإن كان أقل فللسيد تمام القيمة ويكون ذلك من بيت المال‏.‏

 فصل إذا عقد الهدنة بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتداً

ويسلموه إلينا لزمهم الوفاء فإن امتنعوا كانوا ناقضين للعهد فإن عقدت بشرط أن لا يردوا من جاءهم ففي جوازه قولان أظهرهما وأشهرهما الجواز والثاني بل لا بد من استرداده لإقامة حكم المرتدين عليه وقال الماوردي الصحيح عندي صحة الشرط في الرجال دون النساء لأن الأبضاع يحتاط لها ويحرم على الكافر من المرتدة ما يحرم من المسلمة وربما حاول تنزيل القولين على الصنفين فإن أبطلنا الشرط وأوجبنا الرد فالذي عليهم التمكين والتخلية دون التسليم وكذا الحكم لو جرت المهادنة مطلقاً من غير تعرض لرد المرتد وحيث لا يلزمهم التمكين والتسليم يلزمهم مهر من ارتد من نساء المسلمين وقيمة من ارتد من رقيقهم ولا يلزمهم غرم من ارتد من الرجال الأحرار ولو عاد المرتدون إلينا لم نرد المهور ونرد القيم لأن الرقيق بدفع القيمة يصير ملكاً لهم والنساء لا يصرن زوجات وحيث يجب التمكين دون التسليم تمكنوا فلا غرم عليهم سواء وصلنا إلى المطلوبين أم لا وحيث يجب التسليم يطالبهم به عند الإمكان فإن فات التسليم بالموت لزمهم الغرم وإن هربوا نظر إن هربوا قبل القدرة على التسليم فلا غرم وبعدها يجب الغرم وإذا قلنا لا تسترد المرتدة غرم الإمام لزوجها ما أنفق من صداقها لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها ولولاه لقاتلناهم حتى يردوها وإن قلنا تسترد فتعذر ذلك فقال الغزالي نغرم له أيضاً ويشبه أن يكون الغرم لزوج المرتدة مفرعاً على الغرم لزوج المسلمة المهاجرة ولم أره مصرحاً به وقد يشعر كلام الغزالي بخلافه ثم لو جاءتهم امرأة منا مرتدة وهاجرت إلينا امرأة منهم مسلمة وطلبها زوجها فلا نغرم له المهر بل نقول هذه بهذه ويجعل المهرين قصاصاً ويدفع الإمام المهر إلى زوج المرتدة ويكتب إلى زعيمهم ليدفع مهرها إلى زوج المهاجرة هذا إن تساوى القدران فإن كان مهر المهاجرة أكثر صرفنا مقدار مهر المرتدة منه إلى زوجها والباقي إلى المهاجرة وإن كان مهر المرتدة أكثر صرفنا مقدار مهر المهاجرة إلى زوجها والباقي إلى زوج المرتدة وبهذه المقاصة فسر مفسرون قوله تعالى ‏"‏ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ‏"‏ فصل على الإمام منع من يقصد أهل الهدنة من المسلمين والذميين وليس عليه منع الحربيين ولا منع بعضهم من بعض لأن الهدنة لمجرد الكف لا للحفظ بخلاف الذمة‏.‏

ولو أتلف مسلم أو ذمي على مهادن نفساً أو مالا ضمنه وإن قذفه عزر وعليهم بإتلاف مال المسلم الضمان وبقتله القصاص وبالقذف الحد ولو أغار أهل الحرب عليهم ثم ظفر الإمام بأهل الحرب فاستنقذ منهم أموال أهل الهدنة لزمه ردها إليهم وفي إقامة حد السرقة والزنى على المعاًهد وانتقاض عهده بالسرقة خلاف سبق في آخر الباب الأول من كتاب السرقة وبالله كتاب الصيد والذبائح والضحايا والعقيقة والأطعمة هذه الكتب تقدمت في آخر العبادات‏.‏